Friday 20 June 2008

الرماد - الفصل الثانى

الفصل الثانى : أحزان .. وأحلام

إرتفع صوت الأب منادياً : ولد ياأسعد .. إنت ياغبى
دخل أسعد مهرولا .. وقد إرتسمت على وجهه مسحة من الغضب من العبارة التى طالما يرددها له والده فهو طالما يصفه بالغباء والخمول .. ينظر الى عينى والده المتقدتين وهو يضع فى فمه طرف الجوزة .. يسحب منها نفساً عميقاً يتبعه بأنفاس أخرى أقل عمقاً .. ثم يعطى طرف الجوزة لصديقه الذى يجاوره .. فيتابع هذا ما قطعه من أنفاس وهو مطأطىء الرأس وكأنه يكاد أن يهوى الى الأرض ويدق عنقه .. وقد التف بعباءة سوداء تضفى عليه طابعاً كئيباً .. وهكذا أخذت السموم تدور على الأصدقاء الواحد تلو الآخر صرخ الأب فى إبنه : لماذا أنت بطىء هكذا .. تحرك واُحضر الفحم من تحت الدولاب .. وأخبر والدتك بأن تصنع الشاى حالا ..
وتحرك أسعد وأخذ يلقى بنظرة أخيرة على الغرفة .. الغرفة الضيقة التى تكون طيلة ساعات النهار فى هدوء وسكينة ..
ويتوهج الفحم بوهج أحمر .. ويخبو هذا الوهج رويداً رويدا ًحتى يتحول الى رماد .. نظر أسعد إلى هؤلاء الأشخاص المتهالكين على المقاعد الخشبية وخيل إليه بأنه بمثابة مجموعة من المعتوهين .. لم لآ وهم يقبلون عل الموت فى سعادة وهناء .. إنهم يموتون رويداً رويداً .. ويخبو بريق أعينهم يوماً بعد يوم .. ومع ذلك فهم يرحبون بتلك السموم الفتاكة .. ويتنهد أسعد ويخرج .. وذهب الى والدته وهى تجلس فى إعياء تام وقد إصفر وجهها وشحب من الإجهاد طوال النهار .. ورقد على رجليها طفلين صغيرين .. وهاهى ثالثة تستريح على صدرها .. وقد ألقت برأسها على كتف أمها وراحت فى نوم عميق لا تدرى مما حولها شيئاً ولا تعى شيئاً عما يتناوله أصدقاء والدها .. أو من دعوات والدتها المتواصلة .
ترفع الأم إبنتها عن صدرها فى حنان الأمومة وتريحها على السرير بجانب نادية التى راحت فى نوم عميق فى دنيا أحلامها التى لا نهاية لها كالسحاب الذى ينتشر بأرجاء السماء الواسعة ..
ويهمس أسعد لوالدته : إصنعى الشاى ياأماه لوالدى
تنهض الأم ويجلس أسعد على السرير .. وأخذ يعود لقراءة الرواية التى كانت بيده .. إحدى روايات أرسين لوبين اللص الظريف .. التى يفضلها أسعد بعد أن يتعب من وقفته على النواصى لمعاكسة الفتيات
تضع الأم إناء الشاى على الموقد بعد إشعاله .. وأخذت جزيئات الماء تتحرك وتضارب بعضها بعضاً
كذلك الأفكار تتضارب فى رأس الأم الحزينة .. الى متى سيطول هذا العذاب .. الى متى سيداوم زوجها على تعاطى المخدرات ؟؟ كيف تستطيع أن تقنعه بالنهاية التى سيؤلون اليها ؟؟ كيف تستطيع أن تطلب منه نقوداً دون أن تتعرض لثورته الغاضبة ؟؟
تتكاثر علامات الإستفهام وتتنهد الأم فى مرارة .. متى سيشتغل حسن ؟؟ أن صحتها تضعف يوما بعد يوم والمرض اللعين ما زال يلازمها .. ولا تملك ما تعالج به نفسها .. أنها وحدها تعرف النهاية .. والصغار يمرحون طوال النهار وينامون مع أحلامهم الصغيرة الساذجة مع مغامرات الشاطر حسن وعقلة الإصبع وغيرها من الأساطير التى ترويها نادية لهم .. تطفأ المصابيح .. وتخمد الآلات .. وتمضى الساعات .. ليعود الضجيج وتمر الأيام وتدور عجلة الزمان .. أطفال صغار لا يشغلهم سوى المرح وهى وحدها تعلم الحقيقة المرة بأنها لن تستطيع الصمود فى العمل وبعدها ينهار كل شىء إذا لم يستيقظ زوجها من غفوته ويعرف طريق الصواب .
تفيق الأم من شرودها وقد انطفأ الموقد وتصاعد منه دخان خانق سرعان ما انتشر فى الغرفة .. فتقتح النافذة المطلة على الفناء وهى تتنهد وتعيد إشعال الموقد .. ياللسخرية حتى هذ الموقد لا يستجيب لها تبرق عينيها وهى تراقب شعلة الموقد .. وتحدث نفسها .. أنها النار التى تحرق كبد زوجها .. أنها النار التى ستلتهم كيان الأسرة وتحيله الى رماد
يغلى الماء وتتضارب موجاته مع قطع الشاى الصغيرة ..فتملأ ألأكواب الزجاجية وتناولها الى أسعد فيحملها ويدخل الغرفة الأخرى ليضعها أمام والده .. ويقدم الأسطى خليفة الشاى لأصدقاءه : تفضل يامعلم خميس الشاى .. تناول كوبك ياأسطى إمبابى .. إتفضل ياحاج أبو العينين
يقرب الأسطى خليفة الكوب من فمه ويأخذ منه رشفة صغيرة ثم يضع الكوب على المائدة القصيرة .. ويأخذ دورته فى تكريس الحشيش .. فيقطعه ألى أجزاء صغيرة .. ثم يضع قليلا من عشب الدخان فى حجر صغير ويضع قطعة الحشيش الصغيرة فى وسط العشب ويحيطها بقطع الفحم المشتعل .. فيشتعل عشب الدخان ومن حرارته يسال الحشيس ثم يشتعل ويجد دخانه الطريق الى رئتى الأب وأصدقائه .
وترتفع أصوات الأصدقاء وتزداد ضحكاتهم
فى غرفتين صغيرتين متجاورتين .. تمضى الساعات فى أحداها بطيئة مثقلة بالهموم والأحزان .. وفى الأخرى تمر بسرعة مملوءة بالضحكات والإبتسامات .
يشق سكون الليل أصوات مواء القطط .. فيرتجف القلم فى يد أحمد .. وهو جالس فى حجرته المتواضعة التى لا تحتوى ألا على مكتب صغير مكدس بالأوراق والكتب .. وسرير صغير .. ورف صغير .. عليه بعض الكتب .. فى ركن من أركان الحجرة وبجانبه النافذة المطلة على الفناء الواسع حيث تسكن عائلة نادية .. ألقى أحمد بالقلم جانباً وإتجه صوب النافذة وأخذ يدير بصره فى الفناء الواسع وقد خيم عليه سكون الليل .. بعد ساعات قليلة سيتبدد ويحل الضجيج والصياح مع استيقاظ هؤلاء الصغار .
يتطلع الى السماء .. ما أجمل هذه السماء الزرقاء .. وما أجمل النجوم اللا معة كمصابيح ساطعة
يقع نظره على نافذة حبيبته نادية .. فيهفو قلبه وتزداد نبضاته .. ويحادث نفسه : إن ملاكى الجميل تنام الآن مع الأحلام الوردية .. ثم تذكر موعد لقائة فى الغد ..رباه ..ما هذا الليل الموحش .. لم لا ينقشع الظلام ويشرق الفجر الجديد .. إن الدقائق تمضى وكأنها ساعات طويلة ..
ويتطلع مرة أخرى الى السماء وإذا بسحابة ضخمة حجبت ورائها ضوء القمر .. رباه .. أنى أكره الظلام أنى أكره الغروب فى أيام الخريف .. وتابع السحابة فى حركتها وقد تلاشت فى السماء الواسعة كاشفة لأشعة القمر الفضية من السماء البعيدة وإنعكست على وجه نادية الجميل الناصع .. رباه .. ما هذا البريق الذى يغمرنى فييجذبنى لسماء الحب الأبدية .. نعم أنه بريق الحب .. كم هو جميل شعرها الأسود الناعم ينسدل على كتفيها بنعومة ودلال .. لا لا أنها آلهة الحب فينوس بعينها .. وهى أيضاً إفروديت آلهة الجمال
وأغمض عينيه وقدمضى بفكره بعيداً فى فراغ الليل الطويل .. فى قصة حبه لنادية .. فى أمنياته بعش الغرام الذى سيشيده لها ..عش دافىء يحتويهما ويظللهما بجناحيه .. متى ينتهى من دراسته ليستطيع التقدم لخطبتها ..أنه ما زال طالباً فى السنة الأولى ..ولكن ها نحن فى نهاية العام .. ولم يبق سوى ثلاث سنوات .
عندما وصل بفكره الى هذا الموضوع .. نفض عن عقله الأفكار الأخرى وجلس إلى مكتبه وقد أشارت عقارب الساعة الى الواحدة صباحاً .. فأخذ يعد المذكرات اللازمة التى سيأخذها معه فى الغد .. وتناول كتاب المعادن وبدأ فى تصفحه .. فغداً محاضرة المعادن للدكتور محمد عز الدين حلمى .. أستاذ الجيولوجيا بالكلية .. وهو الدكتور الوحيد الذى يعجب به .. يعجب باسلوبه فى شرح المادة .. فيجعلها سهلة الفهم للطالب المتلقى .. وكان أحمد يعيش بكل كيانه مع الدكتور عز أثناء محاضراته .. فهو يراقب حركات شفتيه كأنه يحرص على ألا تفلت إحدى الكلمات من بين شفتيه دون أن يراها بعينيه ويسمعها بأذنيه.. وهو معجب بة لبساطته .. بساطته فى ما يرتدى .. بساطته فى الكلام .. فى كل شىء
أن أحمد يحرص دائما على حضور محاضراته .. فيحضر قبل الموعد بنصف ساعة ليجلس فى المقاعد الأماميه
دقت الساعة الثالثة صباحاً ..فأغلق أحمد الكتاب .. وأطفأ المصباح ..وهبط فى نوم عميق بعد موجة من الأفكار إجتاحت رأسه فأثقلتها وقادتها الى صحراء الظلام .. عند ملتقى الحياة والموت .

No comments:

My Drawings

The Best Favorite Videos

Some channels

Love for all

New visitors bloglog