Tuesday 24 June 2008

الرماد - الفصل السادس

الفصل السادس : عودة .. ولقاء
دقت الطبول مرة أخرى .. عالية .. مدوية .. واهتزت أوراق الشجر بشدة .. وصرخت الفتاة .
تزايد الطرق على الباب الخشبى .. وخرج الزوج ..فتزايدت دقات الطبول وقد لوح الأب عاليا بدليل الشرف والعفة ..وإرتفعت الحناجر بالغناء ..
دخلت نادية منزل زوجها الفخم بأثاثة الفاخر وبما فيه من وسائل الراحة والترفيه .. وفتح الزوج باب غرفة واسعة يغمرها ضوء أحمر خافت .. يضفى إحساسا شاعريا على المكان .. وينعكس على قطع الأثاث المرتبة بنظام .. واُسدلت ستائر خضراء جميلة على سرير يتوسط الغرفة .. حيث جلست نادية .. وأقترب الزوج وإحتواهما الفراش .. وعم الظلام والصمت .. وغاص العجوز فى نومه العميق ولم تستطع نادية النوم حتى الصباح فنهضت وقد غمرت إشعة الشمس الحجرة .. وإستيقظ الزوج على حركتها .. فقبلها على خدها وتقبلت قبلته جامدة كتمثال من رخام .
قال لها : هيا يافتاتى .. أعدى لنا طعام الإفطار .. وتوجهت ناديه الى المطبخ وأعدت وجبة الإفطار وعادت لتضعها على المائدة .. وجلست بمقابلته فأشار العجوز الى زجاجة صغيرة وسألها أن تناولها له وأن تحضر كوبا من الماء .. وأحضرت له ما يريد .. فوضع بضع قطرات من الزجاجة فى كوب الماء وتناوله .. ثم جلس بجانبها وأشار لها .. هيا بنا نأكل .. وتناول طعامه بشهية .. ولكن نادية ما كانت تستسيغ طعماً لما تأكل ..
نظرت اليه طويلا .. والى النظارة السوداء التى تضفى عليه غموضاً كبيراً.. وحاولت أن تتمعن فى وجهه لترى ما يرتسم عليه من علامات .. وضع النظارة جانباً .. ونظر اليها مبتسماً .. وإستطاعت أن ترى عينيه لأول مرة .. إستطاعت أن ترى نظرات عينيه التى تدل على البراءة والسذاجة .. قال لها مبتسماً : سوف نخرج اليوم لنشترى لك ما ترغبين فيه من ملابس .. فما كان منها إلا أن إبتسمت إبتسامة رقيقة ..
وتوالت الأيام .. وحياتها معه لا تتغير .. كان مصاباً بمرض جنسى .. وكان يعالج منه .. ولكن بلا جدوى .. وهكذا عرفت مكانها فى المنزل .. إنها أصبحت دمية يتسلى بها ولا يقربها .. يريدها ولا يستطيع أن يخدشها .. فأصبحت خادمته لتعد له الطعام وأيضاً مربية .. تقرأ له الروايات والقصص وهو مستلقى كطفل صغير لا يستطيع النوم إلا إذا حكت له أمه شيئاً من القصص الخيالية . وهى غير ذلك لا شىء سوى أنها أجمل قطعة أثاث إستطاع أن يمتلكها ..
هكذا شاء القدر أن يعيش مريضاً .. محروما من عوامل السعادة فى حياة الرجل والمرأة .. لم تكن الأقدار تضن عليه بالمال .. فأرباح شركاته تزداد عاماً بعد عام .. ولكن ما فائدة هذا المال أذا لم يشعر بالسعادة .. كان يخاف أن يرتبط بفتاة فتتركه بعد أن تكتشف مرضه .. ولكن ناديه من عائلة فقيرة . إنهم لن يرفضونه إذا تقدم للزواج .. وسوف يحاول أن يجعل من نادية صديقة حميمة .. سوف لا يبخل عليها بأى شىء فى سبيل إسعادها .. وتعويضها النقص الذى فيه .
إكتشفت نادية الحقيقة .. وأصبحت فى بحر من الأفكار .. ماذا ستفعل ؟؟ أنها ما أحبته مطلقاً .. أهل تتركه لأنه لا يقضى لها إحتياجاتها كإمرأة .. ولكنها لم تتزوجه إلا لثروته .. وهو لا يبخل عليها بشىء .. إذن فلماذا تتركه .. أنها ضحت بحبها فى سبيل إسعاد أسرتها الفقيرة .. وهاهى تزيد بتضحية أخرى فى سبيل تلك السعادة .. فيجب عليها أن تتحلى بالصبر .. فقد إنتهى كل شىء بالنسبة لها .. أنها كانت سلعة وقد بيعت ليقبض أهلها الثمن .. ولينعم المشترى بسلعته كيفما شاء ..
وقادها تيار الفكر الى شاطىء غرامها .. فتذكرت حبيبها أحمد .
وتسائلت .. ماذا يفعل الآن .. أهل ما زال يفكر فيها ؟؟ أم أنه قد نسيها ؟؟ أنه لا يعرف ظروفها .. ولا يعرف لماذا قبلت بهذا الكهل .. ولكن كيف تخبره بكل هذا ؟؟ يجب أن تراه .. وذهبت الى منزل والدتها وهى تعلم أنها ستراه .. ولكنها لم تراه ولم تسمع صفيره المعتاد .. كان السكون يخيم على منزل أحمد .. وأخيراً علمت سبب هذا السكون ولماذا لم تسمع صفيره .. عندما سألت والدتها فأخبرتها بأنه مريض منذ أسبوعين .. ورجعت بذاكرتها .. أنه تاريخ زواجها من الكهل .. وتألمت نادية ورغبت فى زيارته .. وسألت والدتها : هيا نذهب اليهم لنرى كيف حاله ..
وفى المساء صعدت نادية هى ووالدتها فاستقبلتهم والدة أحمد مرحبة مقبلة لنادية : متى حضرت يانادية ؟؟ وأجابت نادية : أنى حضرت اليوم .. كيف حال أحمد اليوم .. أنى علمت أنه مريض ؟؟
أجابت والدة أحمد : الحمد لله .. أنه الآن بصحة جيدة .. ولكن الطبيب أخبرنا بأن يستمر فى الراحة لمدة أسبوع آخر .. هيا أدخلى كى تسلمى عليه .. أنه سأل عنك كثيراً .
دخلت ناديه الغرفة وكان أحمد مستلقيا على السرير .. لم يرى نادية عند دخولها .. ولكنه سمع صوتها الحنون وهو يهمس له : كيف حالك اليوم ياأحمد ؟؟ وإستدار أحمد وكأنما همسات صوتها أيقظته من حلم دام أسبوعين .. إستدار ليجد نادية بجانبه .. أنها تسأل عنه .. أنها تحبه .. ولكن لماذا تزوجت هذا العجوز ؟؟ أنه السؤال الوحيد الذى كان يتردد فى ذهنه دوماً ..لماذا فضلت هذا الكهل عليه ؟؟ وجلس أحمد وأطال النظر إليها ..ليرى ما يرتسم على وجهها .. كان وجهها يدل على ما تلاقيه من متاعب نفسية .. فلقد تغيرت نادية تماماً إبتسامتها العريضة أين هى ؟؟ لقد حل محلها إبتسامة صغيرة لا تنفرج لها شفتيها .. وأين النشاط الذى كانت تعرف به .. لقد أصبحت هادئة كلوح من الثلج .
وتسائل أحمد : هل أنت سعيدة يانادية الآن ؟؟ وفهمت نادية ما يقصد وقالت : نعم ياأحمد .. أنى الآن سعيدة .. هيا إنهض وأنفض عن نفسك هذه الهموم .. وأرحع الى كتبك كى تحقق التفوق الذى كنت دائما موصوفاً به .
ونظر أحمد الى عينيها وقال : نعم .. سأعود الى الكتب مرة أخرى وسأذهب الى الكلية مرة أخرى .. يوم السبت القادم ..ونظر إليها نظرة ذات معنى ..وفرحت كثيراً .. وعادت الإبتسامة العريضة ترتسم مرة أخرى على شفتيها ..لم تستطع نادية النوم عند عودتها لمنزلها ..كانت مبتسمة على غير عادتها .. فرحة تكاد الدماء تتفجر من حمرة وجنتيها .. لقد عادت الى نشاطها .. ونست أو تناست أسبوعين من عمرها ..أنها ما تزال الفتاة الصغيرة التى تتسلل خلف بائع الحلوى .. كى تسرق بعض قطع الحلوى منه .. ثم تضحك وتعطيه ثمنها .
مرت الأيام .. واليوم ستقابل أحمد مرة أخرى بعد هذا الزمن الذى إنقطعت فيه مقابلاتهما .. غادرت منزل زوجها مبكرة وذهبت الى منزل أسرتها ..وفى السابعة كان أحمد يسير بجوارها وقد تأبط ذراعها ..وفى مكانهما المعتاد جلسا .. وامواج النيل تتعالى وتتصادم ثم سرعان ما ترتد وتستقر .. وتكلم أحمد متسائلا : ما معنى الكلام الذى جاء فى خطابك .. ما معنى أن القدر يحطمك ؟؟ ألم نتفق على أن نتحدى القدر لنحقق غايتنا وحلم حبنا ؟؟
نظرت اليه .. وتعثرت الكلمات على شفتيها .. فتابع أحمد تسائلاته : ماذا ستقولين .. لماذا قبلت الزواج من هذا الكهل ؟؟أما كنت تستطيعين الإنتظار عام آخر؟؟ .. حتى أنهى دراستى وأتقدم لك ؟؟
تمتمت بصوت يخالطه حشرجة البكاء : أنت تعلم مقدار حبى لك .. ولكن ما حدث كان رغماً عنى .. فعندما تقدم هذا الرجل لأسرتى وعلموا أنه من الأثرياء .. فلم يترددوا للحظة فى الموافقة ظنا منهم بأنى سأكون فى سعادة وهناء معه وسينعكس ذلك عليهم أيضاً فينتشل الأسرة من الفقر .. وكما تعلم أنه بعد هروب أختى منى ولم يعثر لها على أثر وقد تركت خلفها أحزانا ضخمة ..وقد كانت تحل مكان والدتى المريضة فى العمل .. وها قد إنقطع هذا الدخل أيضاً ..
فكان هذا الزوج بمثابة طاقة القدر التى فتحت لهم ..وجدوا فيه النور الذى سينير لهم طريق جديد فى المستقبل بلا فقر وبلا مرض .. ولم يكن فى مقدرتى أن ارفض لأحطم أمنياتهم .. فكان أن ضحيت بنفسى من أجلهم ..
ونظرت الية وتلاقت النظرات .. فإذا بدمعة تترقرق فى عينيه .. نعم لقد عرف الدافع الذى كان يجب أن يعرفه من نفسه ..وبعد نظرات إستعادوا بها حبهم الكبير سألها : وهل أنت سعيدة الآن مع زوجك ؟؟
قالت : انى لا أشعر بالسعادة إلا بجانبك .. أنى ما إستترجعت سعادتى منذ زواجى إلا اليوم وأنا بجانبك..روحى تخاطب روحك ..وقلبى يهمس لقلبك ..وعينى تذوب فى عينك لترى ما يرتسم فى أعماقها من حب وتقدير .. انت المرآة التى تعكس حبى ..انى لم أحب أحد سواك ..أنت من نقلتنى من دنيا يملؤها الضجيج والأحقاد ..الى دنيا الأحلام ..الى سماء الحب .. أنى أشعر وأنا بجانبك وكأننا طائران يحلقان فى السماء
كان أحمد يجلس بجانبها منصتاً لكلماتها العذبة .. وقد استراحت يديها الصغيرة الناعمة بين يديه يتحسس فيهما لهيب الحب .. وقال أحمد فى صوت حزين : وما فائدة كل هذا.. لقد إنتهى كل شىء .. لقد حرمت من الطائر الجميل الذى أحببتة من كل قلبى .. أنى أراه الآن محلقاً وقد إحتواه طائر آخر ..
فأكملت كلامها : الطائر الآخر هو أنت ياحبيبى ..وما علينا إلا الإحتفاظ بحبنا وبعد عام حين تنهى دراستك ساكون لك الى الأبد .. يجب أن تعلم أنى أعيش معه كخادمة أو ممرضة تتقاضى أتعابها ..ولا شى غير ذلك يجمعنى معه .. فأنا ما زلت فتاتك البكر ..لم يلمسها أحد ..أنه ليس سوى صورة لرجل ..
وقاطعها أحمد قائلا : إذن فأنت ما زلت كما كنت .. هل لم ..... وذابت الكلمات.. وإرتسمت إبتسامة عذبة على شفتيه وهى تنهض قائلة : هيا بنا .. لقد حان موعد عودتى للمنزل .

No comments:

My Drawings

The Best Favorite Videos

Some channels

Love for all

New visitors bloglog